مبادئ علم التجويد
يذكر علماء الإسلام أن لكل فن ولكل علم مبادئ عشرة تعرفه وتميزه عن باقي العلوم والفنون ، وذلك قبل البدء في مباحث ذلك العلم ، حتى يكون البادئ والشارع في ذلك العلم على بصيرة تامة به وقد جمع هذه المبادئ العشرة الإمام الصبان في ثلاثة أبيات فقال:
إن مبادئ كل فن عشــــــــــرة الحد والموضـــوع ثم الثمــــرة
وفضله ونسبته والواضـــــــــع والاسم الاستمداد حكم الشـارع
مسائل والبعض بالبعض اكتفى ومن درا الجميع حاز الشرفـــا
فعلم التجويد له هذه المبادئ العشرة كغيره من العلوم وإليك هذه المبادئ العشرة بالشرح والتفصيل
1 ـ اسمه : الاسم المشهور لهذا العلم هو: علم التجويد ، ويقال له : فن التجويد :
والتجويد نوع من أنواع العلم الشرعي ، ويعتبر نوعا من علوم اللغة العربية ، و علوم القرءان
والفرق بين الفن والعلم : أن الفن اسم لما يشتمل على جانب عملي ، والعلم اسم لما يشتمل على جانب عملي وعلمي
والمقصود بالتجويد : تجويد القرءان الكريم
ووجه تسمية هذا العلم بالتجويد : أنه يعرفنا كيف ننطق القرءان الكريم نطقا محسنا مجودا متقنا مشتملا على ما يجب في التلاوة وما يستحسن .
ويسمى علم أو فن الأداء : لأن الأداء عمل صوتي وتجويد القرءان الكريم عمل صوتي فالمقصود بالأداء : أداء القرءان الكريم
ووجه تسميته بهذا الاسم : أنه يعرفنا كيف ننطق القرءان ونؤديه أداء سليما كما هو الواجب
ويسمى علم أو فن القراءة :
ووجه تسميته بهذا الاسم : أنه يعرفنا القراءة القرءانية الصحيحة فإن القراءة بلا تجويد ليست بقراءة
ويسمى علم تلاوة القرءان الكريم :
ووجه تسميته بهذا الاسم أنه يعرفنا كيف نأتي بحروف القرءان وألفاظه يتلوا بعضها بعضا بدرجات مقدرة من السرعة أو البطء وأين نقف وأين نسكت مع حالات مقدرة في ذلك
ويسمى علم التلقين :
ووجه تسميته بهذا الاسم أنه علم تلقيني لابد فيه من مشافهة الشيوخ ففيه مالا يعرف إلا بالمشافهة كدرجات المد والغنة والإمالة وكيفية النطق بالتسهيل والروم والإشمام والإخفاء وإخراج الحروف من مخارجها وما إلى ذلك من الأحكام .
2 ـ تعريفه : التجويد في لغة العرب معناه : التحسين والإتقان والإتيان بالجيد
تقول : هذا شيء جيد أي : حسن .
وتقول : جودت الشيء أي : حسنته .
ويقال : فلان جود القرآن أي : حسن تلاوته .
والاسم منه الجودة ، وهي ضد الرداءة والقبح .
وأما تعريفه في اصطلاح علماء التجويد فينقسم إلى عمل وعلم
فالعمل هو : إخراج كل حرف من الحروف العربية من مخرجه وإعطاؤه حقه ومستحقه من مخرج وصفة وحركة من غير تكلف ولا تعسف
فحق الحرف : ما يجب له من الصفات اللازمة ، كالجهر والشدة والاستفال والإطباق والصفير والقلقلة واللين وغيرها
ومستحقه : ما ينشأ من صفات عارضة بسبب من الصفات اللازمة كالتفخيم المترتب على صفة الاستعلاء
أو ما ينشأ بسبب التركيب والتجاور كقلب النون الساكنة والتنوين ميما وإخفائها عند الباء لتركبها معها في كلمة واحدة مثل : ( أنبأك ) أو مجاورتها في تركيب كلمتين مثل : ( من بعد )
أو ما ينشأ بسبب الوقف كتسكين الحرف المتحرك في آخر الكلمة عند الوقف عليه .
والعلم : أي التجويد العلمي هو : العلم بكيفية إخراج كل حرف من مخرجه وإعطائه حقه ومستحقه
فالتجويد لا يكون بتمضيغ اللسان ولا بتعويج الفك ولا بتغيير الصوت وإنما يكون بإخراج كل حرف من مخرجه وإعطاء كل حرف حقه ومستحقه من الصفات
لذا فقد روى عن الإمام حمزة أحد القراء السبعة أنه قال لمن يبالغ في القراءة إفراطا : أما علمت أنه ما كان فوق الجعودة فهو قطط وما كان فوق البياض فهو برص وما كان فوق القراءة فليس بقراءة
إلا أن التغني بتحسين الصوت والترجيع برفعه وخفضه ونحو ذلك مرغب فيه من النبي صلى الله عليه وسلم لكن في حدود طباع العرب أما إذا خرج عن طباع العرب إلى طباع أهل الغناء والألحان الموسيقية التي تؤدي إلى نقص أو زيادة في الحرف أو الحركة أو المد بلا محافظة على أحكام التجويد وسلامة الحروف والكلمات فذاك محرم ومنهي عنه ، وهو من اللحن الجلي الذي يأثم صاحبه
فقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : اقرأوا القرآن بلحون العرب وأصواتها وإياكم ولحون أهل العشق ولحون أهل الكتابين .
ومن هنا ذكر علماء الإسلام أمورا محرمة ابتدعها القراء في قراءة كتاب الله تعالى فذكروا من ذلك :
أ ـ القراءة بالتطريب وهو أن يترنم القارئ بالقراءة فيمد في غير محل المد ويزيد في المد مالا تجيزه اللغة العربية
ب ـ القراءة بالترقيص وهو أن يرقص الشخص صوته بالقراءة فيزيد في حروف المد حركات بحيث يصير كالمتكسر الذي يفعل الرقص
ج ـ القراءة بالتحزين وهو أن يترك القارئ طباعه وعادته في التلاوة ويأتي بها على وجه آخر كأنه حزين يكاد أن يبكي من خشوع وخضوع
د ـ القراءة بالترعيد وهو أن يرعد الشخص صوته القرءان كأنه يرعد من شدة برد أو ألم أصابه
هـ ـ القراءة بالتحريف وهو أن يجتمع مجموعة من الناس فيقرءون القرءان بصوت واحد فيقطعون القراءة فيأتي بعضهم ببعض الكلمة والآخر ببعضها الآخر ويحافظون على مراعاة الأصوات
فحقيقة التجويد إذن هو إعطاء كل حرف حقه ومستحقه مع بلوغ الغاية والنهاية في إتقان الحروف وتحسينها وخلوها من الزيادة والنقص وبراءتها من الرداءة في النطق والإدمان في مخارجها وبيان صفاتها بحيث يصير ذلك للقارئ سجية وطبيعة سواء أكانت تلك الحروف أصلية أم فرعية كالمغيرة بالتسهيل مثلا وسواء كانت مركبة أم مفردة
فإذا لم يعط القارئ الحروف حقها ومستحقها ربما تغير مدلول الكلمة وفهم منها معنى آخر نحو قوله ( عصى ) إذا لم تعط الصاد حقها في الاستعلاء والإطباق صارت سينا وتغير معنى الكلمة
وقد يحسن القارئ النطق بالحروف مفردة لكن إن نطق بها مركبة لم يبلغ حقيقة التجويد كمن ينطق بالميم مرققة على الصواب وبالخاء مفخمة على الصواب فإذا اجتمعتا في كلمة واحدة مثل:(مخمصة)
نطق بالكلمة كلها مفخمة الحروف أو مرققا ما من شأنه التفخيم أو مفخما ما من شأنه الترقيق
ثم إن التجويد يتوقف على أربعة أركان :
أ ـ معرفة مخارج الحروف
ب ـ معرفة صفاتها
ج ـ معرفة ما يتجدد لها بسبب التركيب من الأحكام
د ـ رياضة اللسان وكثرة التكرار .
قال الإمام ابن الجري في مقدمته في علم التجويد مشيرا إلى حقيقة التجويد :
وهو إعطاء الحروف حقـهـــا من صفة لها ومستحقهـــــــا
ورد كل واحد لأصلــــــــــــه واللفـــظ في نظيره كمثلــــه
مكمــــلا من غير مــــا تكلف باللفظ في النطق بـلا تعسف
وليس بينــه وبين تركـــــــــه إلا رياضــة امرئ بفكــــــــه
3 ـ موضوعه : موضوع علم التجويد هو : القرءان الكريم من حيث أحوال النطق به وكيفية أدائه بلحون العرب ، ومعلوم أن النبي صلى الله عليه وسلم تلفظ به بأفصح لغات العرب فلم ينطق صلى الله عليه وسلم إلا بتجويد وبيان وفصاحة سواء كان نطقه القرءان الكريم أو بالوحي الثاني وهو السنة ومن هنا كانت السنة في قول بعض العلماء من موضوع علم التجويد أيضا
لكن الحقيقة أن ما هو ذاتي فهو منقول في النطق القرءان وبالحديث النبوي وبالشعر والنثر أيضا كإخراج الحروف من مخارجها واتصافها بصفاتها الأصلية أما ما كان عرضيا مثل الإمالة والغنة بمقدار حركتين والمدود بمقادير معينة ومحددة وغيرها من الأحكام التي نقلت إلينا في قراءة القرءان خاصة وعن أئمة مخصوصين
4 ـ واضعه : واضع علم التجويد من الناحية العملية هو رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم فهو أول من نطق به مجودا من البشرية
ومن الناحية العلمية قيل أبو الأسود الدؤلي وقيل أبو عبيد القاسم بن سلام وقيل الخليل بن أحمد الفراهدي وقيل غيرهم ولكن هؤلاء وضعوا بعض القواعد ضمن مؤلفاتهم في علم اللغة العربية
وإلا فإن الواضع الحقيقي لهذا العلم هم علماء القراءات وخصوصا القراء العشرة منهم حيث اهتموا بهذا العلم رواية ودراية ويمكن أن نحدد الفترة الزمنية لهؤلاء القراء بين سنة 118 وسنة 229 هجرية حيث أقدم القراء وفاة من العشرة هو ابن عامر الشامي توفي سنة 118 وآخر القراء وفاة من العشرة هو خلف ثوفي سنة 229 هجرية
إلا أن علم التجويد في هاته الفترة كان ضمن علم القراءات ومن هنا قيل بأن أول من أفرد علم التجويد عن علم القراءات هو : أبو عمر حفص بن عمر الدوري المتوفي سنة 246 هجرية
وقال الإمام ابن الجزري رحمه الله : أول من صنف علم التجويد فيما أعلم هو : موسى بن عبيد الله الخاقاني المقرئ المتوفى سنة 325 هجرية وقصيدته الرائية مشهورة وشرحها الحافظ أبو عمرو .
5 ـ مسائله : مسائل علم التجويد هي : القواعد التي يتوصل بها إلىإتقان قراءة القرآن قراءة مجودة مصونة ومحفوظة من الخطإ كمخارج الحروف وصفاتها وأحكام النون الساكنة والتنوين وأحكام الميم الساكنة وأحكام المد ود وغيرها من الأحكام
6 ـ استمداده : استمد التجويد العملي من قراءة النبي صلى الله عليه وسلم ثم الصحابة من بعده ثم التابعين من بعدهم إلى أن وصل إلينا بالتواتر
وأما الاستمداد العلمي فهو مستمد من كتب اللغة فقد استفاض التجويد في علم الصرف فكثير من أحكام التجويد ذكرها علماء اللغة الأوائل ضمن مؤلفاتهم في اللغة أمثال: أبو الأسود الدؤلي ت 69 هجرية والخليل بن أحمد الفراهدي ت 170 هجرية له كتاب العين في اللغة على ترتيب مخارج الحروف وكتاب النقط والشكل وكتاب معاني الحروف وغيرها وأمثال سيبويه ت 180 هجرية والفراء ت 207 هجرية وابن كيسان ت 299 هجرية وغيرهم من علماء اللغة المتقدمين وكدا المتأخرين أمثال ابن مالك الأندلسي صاحب الألفية في النحو والصرف
كما استمد التجويد أيضا من مؤلفات أهل الأداء فهم الذين اتصلت أسانيد تلاوتهم المجودة برسول الله صلى الله عليه وسلم وهم الذين يضبطون درجات الفتح والإمالة والروم والإشمام والاختلاس ومقدار المدود والغنة وغيرها من الأحكام
واستمد كذلك أيضا من علم التشريح والأجهزة الصوتية الحديثة حيث التعرف على أجزاء الحلق والفم وأنواع الأسنان لتحديد مخارج الحروف وصفاتها ومعرفة المتجانسين والمتقاربين والمتباعدين .
7ـ نسبته إلى غيره من العلوم : إن نسبة العلم إلى غيره تعني : مرتبته فيما بينها من التقدم والتأخر فما كان آلة لغيره قدم وبعض العلماء ذهب إلى أن المراد بالنسبة كون العلم مباينا لما عداه من العلوم أو مشتملا على بعضها أو مندرجا في بعضها فعلم التجويد متعلق بكتاب الله تعالى فهو يلتقي مع التفسير وعلوم القرءان والقراءات ، والعلم بالتجويد علم القرءان ’ فعلم التجويد من المهمات شرعا ، فإذا استقل علم مخارج الحروف وصفاتها عن علم التجويد قدم عليه لأنه من مقدماته ، أما إذا استقل علم الوقف والابتداء عن علم التجويد فإنه يؤخر عليه لأنه كالتتمة له .
8 ـ ثمرته وفائدته وغايته : الفائدة والثمرة والغاية من دراسة وتعلم علم التجويد هي: بلوغ النهاية في إتقان لفظ القرآن الكريم على ما تلقي من النبي صلى الله عليه وسلم
وقيل : صون اللسان عن الخطإ واللحن في كلام الله تعالى والفوز بالسعادة الدنيوية والأخروية
قال الإمام ابن الجزري رحمه الله : ولا أعلم لبلوغ النهاية في التجويد مثل رياضة الألسن والتكرار على اللفظ المتلقى من فم المحسن
وقاعدته ترجع إلى كيفية الوقف والإمالة والإدغام وأحكام الهمز والترقيق والتفخيم ومخارج الحروف
9 ـ حكمه : اختلف اهل العلم في حكم تعلم علم التجويد وحكم تطبيقه على قولين :
أ ـ القول الأول أن تجويد القرءان ومراعاة قواعده سنة وأدب من آداب التلاوة يستحسن الإتيان به عند تلاوة القرءان دون تكلف ولكن ذلك ليس واجبا وهو قول الفقهاء
ب ـ القول الثاني أن تعلم التجويد فرض كفاية والعمل به فرض عين على كل مسلم ومسلمة من المكلفين وهو قول عامة علماء التجويد مستدلين بقول الله تعالى : ( ورتل القرءان ترتيلا ) وقوله : ( قرءانا عربيا غير ذي عوج ) وقوله : ( الذين ءاتينهم الكتاب يتلونه حق تلاوته أولئك يومنون به )
وقوله صلى الله عليه وسلم : إن الله يحب أن يقرأ القرآن غضا كما أنزل
والقرآن الكريم أنزل مرتلا كما قال الله تعالى : ( ورتلناه ترتيلا )
وفي هذا يقول الإمام ابن الجزري رحمه الله :
والأخـذ بالتجويد حتـم لازم مـن لم يجود القرآن آثم
لأنه بـه الإلـــه أنـــــــــزلا وهكذا منـه إلينا وصلا
وهو أيضا حليــة التـلاوة وزينـة الأداء والقراءة
فالاستدلال بالقرءان والسنة واضح ، ولكن الاستدلال بأبيات ابن الجزري ليس مسلما ، لأن النص الصحيح المروي عن ابن الجزري [ من لم يصحح القرءان آثم ] بدل [ من لم يجود ] وعلى هذا فالتجويد عند ابن الجزري ليس لازما
والحق في هذه المسألة التفصيل ، فمنه ما هو واجب كتعلم ما يميز الحروف بعضها عن بعض بتعلم مخارج الحروف وصفاتها ، ومنه ما هو مستحسن كأحكام الغنة والإخفاء والإظهار والإدغام وغيرها من الأحكام ، وبهذا أفتى شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم وغيرهم من علماء الإسلام .
10 ـ فضله : يعد علم التجويد من أشرف العلوم وأجلها وذلك لتعلقه بأشر ف الكتب
وأجلها ألا وهو القرءان الكريم وسيأتي الكلام على فضل تلاوة القرآن وفضل حملته في المبحث التالي إن شاء الله تعالى